صمت المقاومة في غزة- تكتيك استنزاف أم عجز عملياتي؟

المؤلف: سعيد زياد09.09.2025
صمت المقاومة في غزة- تكتيك استنزاف أم عجز عملياتي؟

منذ استئناف الحرب على قطاع غزة، يسود الساحة الميدانية هدوءٌ حذر من جانب المقاومة الفلسطينية، وهو ما يختلف بشكل ملحوظ عن الزخم العملياتي الذي شهدته الأشهر الخمسة عشرة التي سبقت الهدنة. هذا التباين أثار تساؤلات واسعة النطاق وشكوكًا حول قدرة المقاومة على مواصلة عملياتها الدفاعية ضد القوات الغازية، مما أوجد انقسامًا حادًا بين الناس، بين قلقين، ومتشككين، وساخطين، وساخرين.

يبقى السؤال المطروح: ما هو السبب وراء هذا الانخفاض الملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية للمقاومة، على الرغم من مرور قرابة العشرين يومًا على استئناف الحرب، وتوسيع العدو لعملياته البرية في رفح، وإقحامه لثلاث فرق عسكرية في مختلف مناطق القطاع، وهي الفرقة 36 جنوبًا، والفرقة 252 وسطًا، والفرقة 162 شمالًا، بالإضافة إلى البدء في إنشاء طريق عملياتي جديد يفصل بين مدينتي رفح وخان يونس، تحت مسمى "موراج"؟

لماذا لا تتصدى المقاومة لقوات العدو المتوغلة؟ هل يعكس هذا ضعفًا شديدًا في قدراتها إلى هذا الحد؟ أم أنه تكتيك جديد يعتمد على التحلي بالصبر والترقب قبل الانخراط في معركة شاملة؟

للإجابة على هذه التساؤلات، من الضروري أولًا استعراض مفهومين عسكريين هامين؛ الأول هو "الدفاع المرن"، وهو أحد أساليب الدفاع، والثاني هو "الاقتصاد في القوة"، وهو أحد المبادئ الجوهرية للحرب.

من خلال تحليل السياق الدفاعي لعمليات المقاومة منذ بداية العملية البرية الإسرائيلية في السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يتضح أن المقاومة خاضت القتال بشراسة من الخطوط الأمامية، وسجلت ضربات موجعة في كل شارع وحي وزقاق في مناطق التوغل، ولم يتمكن العدو من اختراق أي خط دفاعي دون أن يتكبد خسائر فادحة، سواء في مناطق التأمين أو في مناطق الدفاع الأمامي أو في العمق.

ولم يتمكن العدو من تفكيك كتيبة واحدة من كتائب القسام الأربع والعشرين، الممتدة من بيت حانون شمالًا إلى تل السلطان جنوبًا، بل سجلت المقاومة في نهاية المعركة معدلات قتلى في صفوف العدو تعتبر من بين الأعلى منذ بداية الحرب، خاصة في معركة لواء الشمال ضد قوات العدو، والتي استمرت 115 يومًا، وشهدت مقتل خمسة وخمسين جنديًا إسرائيليًا، من بينهم قائد اللواء الإسرائيلي المدرع 401، وذلك باعتراف العدو نفسه.

ومع مرور أشهر على معركة طوفان الأقصى، ومن خلال دراسة تكتيكات المقاومة الدفاعية خلال المعركة، يمكن ملاحظة التنوع الكبير في الأساليب والتكتيكات التي استخدمتها المقاومة في عملياتها العسكرية، والتي تتسم بطبيعتها غير المباشرة في الاشتباك مع العدو.

من بين هذه الأساليب، تجنب الاحتفاظ بمواقع دفاعية ثابتة، والانتقال من الدفاع الثابت إلى الدفاع المرن، والتصيد والانتظار قبل شن هجوم واسع، واقتناص قوات العدو كلما سنحت فرصة محققة للإيذاء، وهو ما وصفه أحد جنرالات العدو بأن "حماس تقاتل كالحرباء" نظرًا لتعدد وتنوع أساليب القتال.

هذا التحول الديناميكي في تشكيل وهيكلية ونمط قتال قوات المقاومة يمكّنها من التكيف مع تطورات الموقف العملياتي أثناء القتال، بل يساعدها على الحفاظ على عنصر المفاجأة والمبادرة، وإبقاء العدو في حالة قلق دائم من المجهول، وهو عنصر جوهري في تكتيكات الحرب غير النظامية.

هذا التحليل يشير إلى أن الأساليب الدفاعية التي كانت فعالة في بداية المعركة لم تعد كذلك في الأشهر اللاحقة، وأن تكتيكات لواءي غزة والشمال تختلف عن تكتيكات القتال في لواءي خان يونس ورفح، بل وتختلف التكتيكات في اللواء نفسه مع تغير تكتيكات العدو، وحتى في الكتيبة نفسها.

ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة عند مقارنة أساليب قتال المقاومة بين معركة جباليا الأولى في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ومعركة جباليا الثانية في شهر مايو/ أيار، ومعركة جباليا الثالثة في شهر أكتوبر/ تشرين الثاني.

وبالنظر إلى أساليب الدفاع، تلجأ حركات المقاومة عمومًا، خاصة مع طول أمد القتال وتناقص الموارد، إلى تبني أسلوب الدفاع المرن، على عكس الجيوش النظامية التي تعتمد على أسلوب الدفاع الثابت في كثير من المعارك. ويعني الدفاع المرن المناورة بالقوات المدافعة وتحريكها وفقًا لمتطلبات الموقف الميداني، بهدف توظيفها بأفضل شكل ممكن، واستثمارها تكتيكيًا في أفضل المواقع التي تتيح توجيه ضربات حاسمة وثقيلة لنقاط ضعف العدو، بدلًا من تبديد القوة في مواقع غير مجدية تكتيكيًا ولا تسبب خسائر كبيرة.

أما الاقتصاد في القوة فيعني استخدام أقل قدر ممكن من موارد القوة على صعيد الأسلحة والمقاتلين والبنية التحتية لتحقيق أهداف الدفاع، بما لا يؤدي إلى استنزاف الموارد وإنهاك القوات، وبما يتيح المجال أمام القوات لإدامة القتال لأطول فترة ممكنة.

ونظرًا لانعدام خطوط الإمداد لدى المقاومة، يفرض عليها الواقع الميداني ضرورة أكبر للعمل وفقًا لهذا المبدأ من مبادئ الحرب، وقد اعتمدته المقاومة في معركة لواء خان يونس أمام قوات الفرقة المعادية 98، واعتمدته كذلك في معركة لواء رفح أمام قوات الفرقة المعادية 162، حيث نشر العدو تقارير تفيد بأن كتائب القسام في كلا اللواءين سحبت ثلاثة أرباع المقاتلين واحتفظت بربع القوة للدفاع عن مسارح العمليات.

في ظل هذه المعركة الطويلة والمعقدة لكل من المقاومة والعدو، أصبح الاستنزاف العسكري أحد المجالات الجوهرية التي يتنافس فيها الطرفان. وقد طورت المقاومة تكتيكاتها على مدار أشهر الحرب لتجنب الاستنزاف، في المقابل اضطرت إسرائيل، بالتزامن مع خوضها القتال على أكثر من جبهة، بما في ذلك لبنان وسوريا والضفة الغربية، إلى حشد أكبر قدر من قواتها، مما أظهر علامات أزمة استنزاف لدى العدو، خصوصًا في صفوف الاحتياط. وكان الاعتقاد السائد أن الهدنة الطويلة سيتبعها وقف لإطلاق النار، أو على الأقل هدنة أطول، لكن جنود الاحتياط والقوات النظامية وجدوا أنفسهم مضطرين للعودة إلى القتال، ووجدت إسرائيل نفسها مضطرة لإقحام ثلاث فرق عسكرية في غزة، وهو ما يعتبر تشكيلًا كبيرًا بالنظر إلى حجم الجيش الإسرائيلي الصغير.

يشير الحشد الإسرائيلي والهجوم على منطقة رفح إلى مشهد تدفع فيه إسرائيل بقوات كبيرة وقدرات وذخيرة وخطط، وتدفع فاتورة الاستنزاف بالكامل، بينما تحتفظ المقاومة بقواتها وقدراتها وأنفاقها إلى حين تحديد الوقت المناسب للانخراط الكلي أو الجزئي في القتال، وعندئذ ستكون معادلة الاستنزاف صفرًا على صعيد رصيد المقاومة، وفاتورة باهظة على صعيد قوات العدو.

طُرحت تساؤلات عديدة طوال أشهر الحرب حول قدرات المقاومة، خاصة مع الدعاية الإسرائيلية التي ركزت بشدة على نجاحات عمليات الجيش الإسرائيلي في تقويض تلك القدرات وتحطيمها، لكن العديد من الشواهد التي ظهرت خلال المعركة أثبتت عكس ذلك.

على سبيل المثال، سجلت بيت حانون واحدة من أكبر خسائر الجيش الإسرائيلي في العملية البرية قبل الهدنة بساعات، حيث قُتل حوالي عشرة جنود إسرائيليين خلال 72 ساعة فقط، وهي البلدة التي هاجمتها القوات الإسرائيلية منذ الليلة الأولى للهجوم البري وحتى آخر ليلة من أيام الحرب الـ 471 قبل دخول وقف إطلاق النار للمرحلة الأولى حيز التنفيذ.

من خلال ما سبق، يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده أن حالة الهدوء العملياتي التي تلتزم بها المقاومة تندرج ضمن تكتيك دفاعي، وليست ناتجة عن عجز عملياتي أو تنظيمي، وذلك بهدف تحقيق أهداف الاستنزاف والبقاء وكسر إرادة القتال. فما كان مناسبًا للدفاع في الأشهر السابقة من الحرب لم يعد مناسبًا اليوم، وبالتالي يصبح التخلي عن الأرض والانسحاب التكتيكي بالقوات إلى عمق المناطق الدفاعية أفضل من الدفاع في جميع خطوط الدفاع، وذلك لتحقيق أغراض توجيه الضربات الحاسمة وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر.

يتيح هذا النمط من الدفاع الاستخدام الأمثل للموارد التي استُنزف جزء كبير منها، وتقليل الخسائر المادية والبشرية إلى الحد الذي يسمح باستدامة القتال لأطول فترة ممكنة، كما يتيح هذا النمط، إذا ما أثبت نجاحه، أداة فعالة لدعم المواقف التفاوضية في السياق السياسي والعسكري.

فعندما تُظهر القوات المدافعة قدرتها على استيعاب الضغط والمبادرة بتنفيذ عمليات دفاعية مركزة ومدروسة، فإنها تؤكد امتلاكها زمام المبادرة الإستراتيجية، مما يمنح القيادة السياسية موقف قوة على طاولة المفاوضات. هذه القدرة لا تعكس مجرد صمود دفاعي، بل تشير إلى ديناميكية قتالية متقدمة تفرض نفسها على العدو وتعيد تشكيل ميزان القوى.

بالإضافة إلى ذلك، يساهم هذا النمط من القتال في التأثير على الرأي العام الإسرائيلي، الذي لم يعد يمنح جيش العدو نفس الشرعية التي كان يتمتع بها في بداية الحرب، وأصبح أكثر حساسية لخسائر الجيش من أي وقت مضى، نظرًا لاعتباره أن الحرب الحالية أصبحت عبثية ولا تخدم الكيان بقدر ما تخدم أجندة شخصية لنتنياهو واليمين الإسرائيلي.

كما يساهم هذا النمط في كسر الموقف الأمريكي المتزعزع من فكرة تجدد العمليات العسكرية، حيث تلتزم الإدارة الأمريكية السابقة والحالية برؤية مفادها أن العمليات العسكرية وحدها غير قادرة على تحقيق أهداف الحرب، وأن العملية السياسية هي الأهم والأولى.

وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن ووزير الدفاع الأمريكي السابق لويد أوستن أن الإنجازات التكتيكية التي حققها الجيش الإسرائيلي في غزة قد تتبدد وتتحول إلى هزيمة كبرى إذا لم يتم استثمارها عبر مسار سياسي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة